دمج معايير الحوكمة: ضرورة للشركات في الأزمات
مقدمة
في ظل بيئة الأعمال المتسارعة، يعتبر دمج العوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) أكثر من مجرد ظاهرةعابرة، بل تحول جذري ومستدام. بالنسبة للشركات في فلسطين، لا يعكس هذا النهج المتمثل بدمج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة ("الحوكمة") ضمن سياساتها وقراراتها استجابة للتحديات المتزايدة فقط، بل من الممكن أيضاُ أن يخلق فرصاً جديدة، نظراً لكونه يجمع بين النجاح المالي والنتائج الاجتماعية والبيئية الايجابية، ممّا يتطلب من الشركات الدراسة وإعادة النظر في سياساتها لمواءمتها مع التعقيد الذي خلّفته التحديات البيئية والاجتماعية. وعليه، لابدّ من تناول الإطار القانوني الناظم لإمكانية دمج معايير ESG ضمن سياسات الشركات وقراراتها، والذي يتناول واجب الإفصاح ومدى كفاية التشريعات الحالية ومرونتها لدعم وإسناد هذا الدمج وإلزام الشركات به، والأهمية العملية المرتبطة به تحديداً في الأزمات.
أولاً: الإطار القانوني
بدايةً، لابدّ من البحث في الإطار القانوني الناظم لدمج معايير الحوكمة ضمن سياسات الشركات المساهمة العامة في فلسطين، مع التنويه إلى أنّ هذا المقال سيقتصر على معالجة هذه الجزئية في الشركات المساهمة العامة دون غيرها، نظراً لأهمية تبني سياسات حوكمة مناسبة بها، وأهميتها وتأثيرها على المشهد الاقتصادي ككُلّ.
بناءً على القرار بقانون رقم (42) لسنة 2021 بشأن الشركات، ويٌشار له فيما يلي بِ ("القانون")، تتكون الشركة ككيان قانوني من المساهمين، ومجلس الإدارة الذي يتم اختياره أو انتخابه من المساهمين. يلعب المدراء دوراً كبيراً في إدارة شؤون الشركة وأنشطتها، وقد نظم القانون الواجبات العامة المفروضة عليهم بموجب المادة (20) منه، والتي تمثل بمجملها التزامات المدراء تجاه الشركة والمساهمين. كما تم تعريف الحوكمة بموجب المادة الأولى من القانون بأنها مجموعة من المعايير والقواعد والإجراءات المتعارف عليها دوليًا، والتي يتم بموجبها إدارة الشركة والرقابة عليها وتنظيم العلاقات بين مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية للشركة والمساهمين وأقلية المساهمين والأطراف ذوي المصالح المرتبطة بها، وذلك ضمن الأطر التنظيمية والإدارية والقانونية والمالية التي تحدد الحقوق والواجبات والمسؤوليات وبما يحقق الانضباط المؤسسي في الشركة. كما تبنّت المادة (5) من دليل القواعد والممارسات الفضلى لحوكمة المصارف في فلسطين والمرفق بالتعليمات رقم (10) لسنة 2017 الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية، ويٌشار له فيما يلي بِ ("الدليل")، تعريفاً مُشابهاً للحوكمة.
وعليه، تكون حوكمة الشركات المساحة المشتركة التي تتفاعل فيها العناصر المذكورة أعلاه لغايات تقرير ما هو مسموح وما هو ممنوع وفقاً لأنظمة الشركة. بناءً على ذلك، يجعل إطار الحوكمة أعضاء مجلس الإدارة مسؤولين ليس فقط أمام المساهمين، بل أمام شريحة أوسع من الأطراف ذوي المصلحة.
في هذا السياق، هناك جدل مستمر بين نظريتين أساسيتين: نظرية المساهمين ونظرية أصحاب المصلحة، بينما تشكل الأولى النموذج التقليدي للحوكمة، والتي ترى الشركة بأنها مجرد مجموعة من المساهمين بمصالح اقتصادية جمعية، وبهدف واحد رئيس يتمثل بحماية تلك المصالح دون غيرها. وفي المقابل، ونظراً لكون الكيان الخاص بالشركة لم يعد بهذه البساطة، ترى النظريات القانونية الحديثة الشركة بأنها مجموعة من أصحاب المصالح: الموظفين، الدائنين، الموردين، المجتمعات، المستهلكين... الخ.[1]
بينما تبدو هاتين النظرتين بأنهما متعاكستين تماماً، فإنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. حيث أن مسؤولية الشركات تجاه القضايا الاجتماعية والبيئية ليست ببساطة أمر تطوعي أو تعاطفي، بل قد تكون التزام قانوني بحت بصفتها جزء لا يتجزأ من مسؤولياتهم المتعلقة بالحوكمة وواجبات الائتمان المفروضة على المدراء قانوناً. وفقاً للمادة (177) من القانون، فإن من صلاحيات مجلس الإدارة اتخاذ القرارات التي تحدد الإطار العام للحكم الرشيد وإدارة المخاطر والتدقيق الداخلي للشركة وفقا لأحكام القانون والنظام الداخلي. يُشير هذا النص ضمناً إلى أهمية أخذ المدراء مصالح أخرى بعين الاعتبار بالإضافة لمصالح المساهمين في سبيل تنفيذهم لالتزاماتهم المتعلقة بإدارة المخاطر. حيث أنه وبناءً على خارطة طريق التمويل المستدام الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية سنة 2024، فإن إهمال عوامل الحوكمة البيئية من شأنه أن يؤدي إلى أنواع متعددة من المخاطر، ومن ضمنها على سبيل المثال لا الحصر، الخسائر المادية قصيرة المدى، التغيرات المالية على المدى الطويل، والأضرار ذات العلاقة بالسمعة.
واجب الإفصاح
وفقاً للمادة (4) من قرار مجلس إدارة هيئة سوق رأس المال الفلسطينية رقم (1) لعام 2013 بتعليمات معدلة لتعليمات رقم (2) لعام 2008 بشأن الإفصاح، تلتزم الشركات عند نشر التقرير السنوي مراعاة أن يتضمّن التقرير الإفصاح عن سياسة الشركة في مجال المسؤولية الاجتماعية وتلك المتعلقة بسياستها في مجال خدمة البيئة والمجتمع المحلي، على أن تكون هذه السياسة معلنة بشكل واضح وغير مضللة وقابلة للتطبيق، وفي حال إذا لم يكن لدى الشركة أية نشاط في مجال المسؤولية الاجتماعية أو أية مساهمات مجتمعية فيجب الإفصاح عن ذلك ضمن التقرير السنوي.
كما نص المبدأ الثالث عشر من الدليل على أنه يتعين على مجلس إدارة المصرف أن يُقرّ سياسة الإفصاح والشفافية بحيث تشتمل حدّ أدنى من المعلومات، وأهمها أهداف وسياسات المصرف بشأن أخلاقيات السلوك المهني والتزامات المصرف تجاه المجتمع. وعليه، وفي ظلّ غياب النص القانوني الواضح الذي يُلزم الشركات بتبنّي الحوكمة، فإنّ هذه النصوص تلزمها بالإفصاح في حال تبنّت تلك السياسات. في الوقت الحالي، لا يوجد إطار موحد للإفصاح المتعلق بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية، ممّا قد أدى إلى جهود ومبادرات فردية هنا وهناك.
مرونة كافية لتحقيق أهداف أوسع
يمنح القانون هامش من المرونة للشركات تسمح بتحقيق أهداف أبعد من مجرد تحقيق الأرباح، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما هو وارد في المادة (137) منه، والتي اشترطت أن يتضمن النظام الداخلي للشركة إضافة إلى البيانات الواردة في عقد التأسيس مجموعة من البيانات، حيث نصت في الفقرة الأخيرة "وأي أمور أخرى ذات علاقة وفق ما يقرره المساهمون" ممّا يمنح بوضوح مساحة للمساهمين بتقرير أهداف الشركة والنص عليها ضمن مستنداتها التأسيسية.
ثانياً: الأهمية العملية لتبني الحوكمة في الأزمات
على الرغم من غياب النصوص القانونية الواضحة التي تلزم الشركات بتبني معايير الحوكمة، فإن دمج تلك المبادئ بسياسات الشركة مهم جدا للنجاح المستدام للشركات. حيث تتمتع الشركات التي تتبنى الحوكمة بمجموعة من الفوائد والمزايا، منها الوصول الأسرع والأسهل للأسواق والمستثمرين من خلال كونها بيئة جاذبة للاستثمارات والتمويل الخارجي، زيادة في المبيعات والأرباح، توفير تكاليف التشغيل، تحسين سمعة الشركة.[2]
بالإضافة إلى ما سبق، يشكّل الإفصاح عن سياسات الشركة في مجال الحوكمة والمسؤولية الاجتماعية والبيئية عاملاً مسانداً لجهود الشركة في تبني تلك السياسات، حيث يشير إلى حرص الشركة على الالتزام بالمعايير الدولية وأفضل الممارسات، كما يعمل على تعزيز العلاقات الإيجابية مع الأطراف المعنية التي تعطي أولوية للاعتبارات البيئية والاجتماعية، حيث يساهم كل ذلك بتعزيز صورة الشركة وسمعتها، ممّا من شأنه بالضرورة أن يؤدي إلى تحسين الأداء المالي للشركة، والذي يرتبط مباشرةً بالنموذج التقليدي للحوكمة وواجبات المدراء المفروضة بموجب أحكام القانون.
أما فيما يتعلق بأوقات الأزمات والركود الاقتصادي، فإن تبني تلك السياسات وبالإضافة إلى الفوائد المذكورة أعلاه يكتسب درجة أعلى من الأهمية في تلك الأوقات، حيث أنه يساهم في استمرارية الشركة ومرونتها التشغيلية، نظراً لكونه يعدّ استراتيجية مهمة لإدارة المخاطر، كونها تلفت النظر لأنواع مختلفة من المشاكل والعيوب في أنشطة الشركة وسير عملياتها عموماً، والتي لم يكن سيتمّ الانتباه إليها وتداركها فيما لو لم يكن هناك سياسات إدارة مخاطر قوية فعالة.
ثالثاً: النتائج والتوصيات
1. تبني الحوكمة ليس فقط امتثال وتنفيذ لالتزام قانوني محتمل، بل يساهم أيضا بشكل إيجابي، وخاصةً في الأزمات، في تعزيز استدامة الشركة وتحقيق النجاح على المدى البعيد، ومساعدتها على مقاومة تلك الظروف.
2. لغايات تمكين الشركات من تبني معايير الحوكمة، لابدّ من ممارسة جهات الرقابة والهيئات الحكومية وأهمها في هذا السياق هيئة سوق رأس المال الفلسطينية لصلاحياتها بالخصوص، وذلك من خلال إصدارها لتعليمات وإرشادات تسهل من تطبيق نصوص القانون وبالتالي تنفيذ الشركات لالتزاماتها ذات العلاقة. وفي هذا السياق، نوصي بأن يكون هناك إطار وطني موحد للإفصاح، لمساعدة الشركات وتحفيزها على الالتزام بواجب الإفصاح، بحيث يكون الإطار موحد وشامل لكافة القطاعات بما يتناسب مع الالتزامات البيئية والاجتماعية، والمخاطر المصاحبة لكل من تلك القطاعات، ممّا يساهم في تشجيع الشركات على تكثيف جهودها تجاه القضايا الاجتماعية والبيئية، والأخذ بعين الاعتبار كافة المصالح ذات العلاقة، من خلال تبني سياسات حوكمة شمولية.
3. نوصي بتعديل مدونة قواعد حوكمة الشركات لعام 2009 وجعلها قواعد قانونية ملزمة وليس مجرد توصيات، وذلك لغايات تسهيل الدمج ودعم الشركات في سبيل امتثالها للمعاير الدولية وأفضل الممارسات في مجال الحوكمة، وذلك في سبيل بناء اقتصاد فلسطيني مرن مستدام وتحقيق النتائج المرجوّة على المدى الطويل.
[2]Coalition for Accountability and Integrity (AMAN), “The reality of the private sector’s practice of social responsibility in Palestine in the light of international standards,” 2022, https://shorturl.at/6Vc2c .